هناك أشخاص عظماء كثر في إفريقيا السوداء عاشوا في القرن الماضي، لكن عظمتهم وموهبتهم وقدراتهم كلها دفنت تحت تأثير الاحتلال الذي كان فرنسيًّا في الأغلب.
وبعض هؤلاء العظماء أتيح للناس أن يعرفهم، وقد كانوا قسمين: قسمًا جاهد الاحتلال فذاع اسمه وشاع عمله مثل ساموري توري، ومحمد عبد الله حسن، وعمر الفوتي، وكل هؤلاء ذكرتهم من قبل.
وقسمًا آخر خرج من دياره متجهًا إلى الحرمين غالبًا، وكان منهم آل الأنصاري من مالي، وبعضٌ من الفلاته، وكان من هذا القسم العَلَم الذي أترجم له في هذه الحلقة، وهو الشيخ عبد الرحمن بن يوسف الإفريقي، وهو من مالي.
ولد سنة 1326هـ/ 1908م في قرية "ففا" من مالي، التي كانت قد ابتليت بالاحتلال الفرنسي الذي امتص ثروتها وحطم قوتها، ونشأ كما ينشأ الصبيان آنذاك فدرس في كُتّاب القرية، ولما بلغ الثانية عشرة من عمره مَرّ بالكُتَّاب مفتش فرنسي.
فحاوره الطلاب واطلع على كراريسهم فوجد من عبد الرحمن نباهة وفهمًا ومعرفة بالواقع حوله تفوق ما يمكن أن يحصله صبي في سنِّه، فأعجب به وطلب من والده أن يسمح بتحويله إلى إحدى المدارس العصرية التي تدرس على الطريقة الفرنسية، ففعل الوالد، وهذا يقتضي الخروج من القرية إلى بلدة أكبر.
وهكذا كان وخرجت القرية لتودعه، وسط دموع الحزن ولوعة الفراق، والعجيب أن والده قال له وهو يودعه: أوصيك بتقوى الله والحفاظ على دينك في تلك المدرسة التي لم تنشأ إلا للقضاء على عقيدتك الإسلامية، ووجه العجب أن الوالد فاهم لمراد أولئك، لكنه استجاب لنداء العاطفة في داخله، ويبدو أنه رجح بين المصالح والمفاسد، فاختار ذهاب ابنه، والله أعلم.
قضى الفتى ثماني سنوات في المعهد التنصيري الصارم، وكان من الأوائل حتى نال الشهادة الثانوية ثم لما تخرج عين معيدًا في المدرسة نفسها معلمًا للغة الفرنسية وبقي فيها ثلاث سنوات، لكن كل تلك السنوات لم تنل من عقيدة الفتى، ولم تستطع أن تنـزع الإسلام من نفسه، فبقي على فطرة نقية، هذا من عناية الله تعالى به؛ إذ كم من مسلمٍ ضاع وماع في تلك المدارس الخطيرة.
ثم تقدم لوظيفة في مصلحة الأرصاد الجوية في العاصمة باماكو فكان أول المقبولين، ثم بعد أشهر قلائل ترقى إلى وظيفة سكرتير المصلحة، ولقد كانت كلمة والده "إنهم يريدون القضاء على عقيدتك الإسلامية" ترنُّ في أذنه في المعهد والوظيفة، حيث رأى حملات تشويه الإسلام تشتد في كل مكان كان فيه، إضافةً إلى تعظيم أوربا وأهلها وتحقير الإفريقيين، ودينهم وتاريخهم.
ولم يكن عبد الرحمن مقتنعًا بصحة أقوال المنصرين، لكنه لم يكن قد حاز من العلم آنذاك ما يمكنه من الرد عليهم ردًّا مُفْحمًا.
ولما مضى عليه عامان في الوظيفة استدعاه رئيسه الفرنسي ليشكره على ضبط العمل وحسن الإدارة ثم فاجأه بالقول:
- يؤسفني يا عبد الرحمن أن يظل مثلك متشبثًا بتقاليد المتخلفين.
- لو أوضحت ما تريد.
- ألا ترى أنك تلتـزم بالإسلام أكثر مما هو ضروري!! إن الملونين من زملائك يكتفون بالانتساب لهذا الدين، أما أنت فلا ترضى إلا أن تربط تصرفاتك بقيوده الثقيلة الجامدة.
- الإسلام دين رباني سمح لا يقيد المؤمن به إلا عن المفاسد، ثم يطلق مواهبه في ميادين الخير والعمل الصالح إلى أقصى حدود الإمكان.
- هذا دفاع عاطفي لكنه لا يستطيع تغيير الحقيقة؛ وهي أن الإسلام دين المتخلفين، بقدر ما يعلم الناس أن النصرانية دين المتقدمين والمتفوقين!!
- ولم لا يكون كلام الرئيس هو العاطفي؟! لقد درست الكثير من تعاليم النصرانية ووقفت على أصولها فلم أجد فيها ما يخاطب العقل، بل هي مجرد استسلام لأقوال رجال يمثلون سلطة الكنيسة.
- نعم نعم وهذا سر تفوقها!! لأن هذه الأقوال لا تحمل طابع الإلزام، فأنت تستطيع أن تكون نصرانيًّا دون أن تدخل الكنيسة أو تتقيد بسلوك معين.
- لكن هذه ليست ميزة يا حضرة الرئيس؛ إنها تأكيد على أن النصرانية ليست وحيًا إلهيًّا بل هي مجرد اجتهادات شخصية يقوم بتحضيرها طائفة من ذوي الاختصاص كأي شأن بشري آخر.
- حسنًا، أليس الاجتهاد المتطور أَبْعَثَ على التقدم من الجمود على أحكام لا تسمح للإنسان بالتحرك إلى أبعد من حدودها المغلقة.
أجل يا سكرتيري العزيز: إن الإسلام محاولة صارمة لتجميد الحياة، فأين هو من نصرانيتنا التي لا تعرف الحدود ولا تسمح بالجمود؟
ثم أنهى الفرنسي المقابلة تاركًا عبد الرحمن الإفريقي مليئًا بالانفعالات والأفكار.
وهذه المناظرة دالة بوضوح أن أقطاب الاحتلال كانوا يتخذون من النصرانية مادة يتكئون عليها في إخراج المسلمين من دينهم، حتى لو كان أولئك قد كفروا بالنصرانية منذ زمن بعيد أو على الأقل نَحّوها جانبًا بعيدًا عن الحياة، بمعنى أن النصرانية عند أولئك صارت حمية وتُكَأة وقنطرة لمصالح الغرب ومطامعه.
ثم جاء وقت الحج فشق عبد الرحمن الإفريقي طريقه إلى مكة في قافلة عبر السودان، وهي رحلة شاقة وصل بعدها إلى مكة سنة 1345هـ/ 1926م، وكان في نيته أن يحج ويعود لكن دروس المسجد الحرام والمسجد النبوي أغرته بالبقاء حتى يتفقه ويزداد علمًا.
وأقبل على العربية يغترف من مَعِينها، ثم لزم أحد فقهاء المالكية في المسجد النبوي حتى فقه في مذهب مالك، وبعد أربع سنوات قرر أن يعود إلى بلاده.
وذهب إلى جدة ليركب البحر، وفي أحد الفنادق اجتمع بأحد أهل العلم الذي حثَّه على البقاء لطلب مزيد من العلم والتضلع من عقيدة السلف الصالح، فعاد الشيخ عبد الرحمن إلى المدينة النبوية المنورة ولزم شيخه سعيد بن صديق -وهو إفريقي أيضًا- ولم يكن له أولاد، فصار الشيخ عبد الرحمن مثل ولده.
أقبل على دراسة الحديث النبوي الشريف، والتحق بدار الحديث طالبًا ودرس في الحرم النبوي الشريف، ثم صار مدرسًا في دار الحديث سنة 1350هـ/ 1931م، وهي التي أنشأها الشيخ أحمد بن محمد الدهلوي.
من المواقف التي حصلت له:
كان يدرس في حلقة الشيخ ألفا هاشم، وهو أحد المشايخ الأفارقة الذين كان لهم أثر في المدينة النبوية المنورة، فوصلت للشيخ رسالة باللغة الفرنسية، فأسف الشيخ أنه لم يجد من يترجمها له، فلما انفضت الحلقة قال الشيخ عبد الرحمن لشيخه: هل يسوغ لمسلم أن يستعمل لغة أعداء الإسلام في حرم رسول الله؟
فضحك الشيخ وقال له: أنسيت يا عبد الرحمن أن رسول اللهقد عهد إلى بعض صحابته بتعلم لسان يهود؟
وعندئذ طلب عبد الرحمن من شيخه أن يترجم له الرسالة، فانتشر خبر إجادته للفرنسية حتى إنه طُلب في وظيفة مترجم لكنه اعتذر؛ لأنه يريد التفرغ للعلم.
ومن المواقف أيضًا أن أحد الطلاب استهزأ أمامه بأحد المشايخ وقال: ومن يكون هذا الرجل؟ وما هي منزلته؟
فغضب الشيخ وقال له: هو ممن أمرك الله بالدعاء والاستغفار له في قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10]. والله يقول: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، ثم وعظه بأمثال هذا الوعظ.
ومما حصل له مما يدل على سماحة نفسه أن أحد أعدائه شجَّ رأس ابنٍ له انتقامًا منه، فسُجن هذا الجاني وكان فقيرًا، فشفع الشيخ فيه فلم تُقبل شفاعته، فأنفق الشيخ على عائلة الجاني حتى خرج من سجنه، فلما عرف ذلك ثاب إلى نفسه وعاد إلى الحق.
همته:
لا شك أن الشيخ ذو همة عالية دعته لترك المنصب في مالي، وترك الأهل والوطن والتغرب من أجل طلَب العلم، وقَلَّ من الناس من يقدر على هذا، بل إنه لم يعد لوطنه أبدًا بعد مفارقته إياه.
وكان محتاجًا إلى المال أيام الدراسة في المدينة النبوية المنورة، فتارة كان يحمل الماء بأجرة، وتارة كان يؤجر نفسه في بعض المخابز، وتارة يساعد الخياط، وهو مع كل ذلك مكب على طلب العلم بنشاط وهمة حتى صار أستاذًا في دار الحديث التي درس فيها سنة 1364هـ/ 1945م، وصار مدرسًا في الحرم النبوي الشريف سنة 1360هـ/ 1941م، وعاش حتى صارت الاستفتاءات ترد إليه من أنحاء العالم الإسلامي.
ثم صار مدرسًا في المعهد العلمي في الرياض، ثم مدرسًا في كلية الشريعة فيها 1370هـ/ 1951م. ثم اختاره الملك عبدالعزيز -رحمه الله- ليكون داعية في ينبع، فنفع الله به.
وكان ذا همة في التدريس يمكث فيه الساعات الطوال بدون ملل ولا كلل.
ومن همته العالية إنفاقه الدائم بعد أن فتح الله عليه ورزقه، فكان يعطي الفقراء، فإذا قيل له: دع بعضًا من مالك لأهلك. قال: إني تارك لهم خيرًا من ذلك: الله Y.
ومن حسن أخلاقه ما حكاه تلميذه الشيخ عمر بن محمد فلاته -رحمهما الله تعالى- فقال: ولا أحصي عدد ما سمعته -رحمة الله علينا وعليه- يدعو إلى الاعتدال والإنصاف.
مؤلفاته:
له عدة كتب منها: "الأنوار الرحمانية لهداية الفرقة التيجانية"، و"توضيح الحج والعمرة"، و"جواب الإفريقي" رسالة فيها إجابات على أسئلة وردته من مليبار سنة 1366هـ/ 1947م.
توفي -رحمه الله تعالى- سنة 1377هـ/ 1957م.
الكاتب: د. محمد موسى الشريف
المصدر: موقع التاريخ